أولاً: المقدمة
شهدت تركيا خلال العقود الأخيرة تطورًا ملحوظًا في مجال الاستثمارات العقارية، لا سيما من قبل الأجانب، وبخاصة من مواطني الدول العربية. وفي ظل هذا الاهتمام المتزايد، ظهرت العديد من الأسئلة القانونية حول مدى مشروعية تملك الأجانب للعقارات، والشروط التي تحكم ذلك، والقيود التنظيمية التي تفرضها القوانين التركية، بالإضافة إلى مواقف القضاء الإداري التركي وعلى رأسه مجلس الدولة (مجلس الدولة التركي).
يهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة قانونية تحليلية موسعة حول تملك الأجانب للعقارات في تركيا من منظور قانون التسجيل العقاري، وقرارات المحكمة العليا التركية، مع التطرق إلى الجوانب الإجرائية والتنظيمية ذات الصلة.
ثانياً: الإطار القانوني لتملك الأجانب للعقارات في تركيا
- المصدر التشريعي الرئيسي:
يُعد قانون التسجيل العقاري التركي رقم (2644) المعروف باسم “قانون الطابو” هو المرجعية الأساسية التي تنظم تملك الأجانب للعقارات في تركيا. ووفقًا للمادة (35) من هذا القانون:
“يجوز للأشخاص الطبيعيين من جنسية أجنبية تملك العقارات في تركيا وإنشاء حقوق عينية محدودة عليها، شريطة الالتزام بالقيود القانونية.”
كما تنص المادة على:
“يستفيد مواطنو الدول التي يحددها رئيس الجمهورية من هذه الحقوق.”
وقد تم تعديل هذه المادة بموجب القانون رقم 6302 المؤرخ 03/05/2012، بإلغاء شرط “المعاملة بالمثل” التقليدي، وتم استبداله بتقدير سياسي مباشر من رئاسة الجمهورية.
- نطاق التملك المسموح به:
- الحد الأقصى للمساحة التي يمكن للأجنبي تملكها هو (30) هكتار على مستوى الجمهورية التركية.
- لا يجوز أن تتجاوز ملكية الأجانب في منطقة إدارية معينة نسبة (10%) من الأراضي التي يمكن تملكها من قبل الأفراد.
- يشترط أن يقع العقار ضمن مناطق مصنفة كأراضي سكنية أو تجارية بموجب “مخطط التنظيم العمراني”.
كما تنص المادة ذاتها:
“يجوز للأشخاص الأجانب تملك العقارات بحيث لا تتجاوز نسبة عشرة بالمئة من مساحة المقاطعة القابلة للملكية الخاصة، وبحد أقصى ثلاثين هكتارًا للشخص الواحد في عموم البلاد.”
- حالات الحظر:
يحظر على الأجانب تملك العقارات في مناطق عسكرية أو أمنية أو استراتيجية إلا بعد الحصول على موافقات من الجهات الأمنية المختصة:
“يُمنع تملك العقارات من قبل الأجانب في المناطق العسكرية المحظورة، والمناطق الأمنية، والمناطق الإستراتيجية.”
ثالثاً: تملك الأشخاص الاعتباريين الأجانب (الشركات)
بموجب المادة 36 من القانون:
“يجوز للشركات التجارية ذات الشخصية الاعتبارية المؤسسة بموجب قوانين الدول الأجنبية أن تتملك العقارات في تركيا ضمن نطاق أنشطتها.”
يشترط موافقة وزارة البيئة والتحضر ووزارة الداخلية، مع تقديم إثبات رسمي للهوية القانونية للشركة الأجنبية.
رابعاً: مواقف القضاء الإداري التركي (مجلس الدولة التركي)
أصدرت دوائر مجلس الدولة قرارات متتالية تؤكد على ما يلي:
- إلغاء شرط المعاملة بالمثل الجامد:
قرار الدائرة الثامنة لمجلس الدولة رقم 2016/4256 أساس، 2018/7634 قرار:
“مع التعديل الذي حصل عام 2012، تم إلغاء شرط المعاملة بالمثل في تملك الأجانب للعقارات، وأصبح اعتماد إذن الرئاسة هو الأساس.”
- بطلان قرارات الرفض غير المعلّلة:
“يجب أن تستند قرارات الرفض الإدارية بشأن تملك العقارات إلى أسباب واضحة وقانونية؛ وإلا فإن القرار يكون باطلاً.”
- احترام حدود التنظيم العمراني:
“لا يمكن تسجيل العقار باسم أجنبي إذا كان خارج نطاق مخطط التنظيم العمراني.”
خامساً: الإجراءات العملية لتسجيل العقارات للأجانب
- إبرام العقد أمام دائرة الطابو أو كاتب العدل.
- الحصول على رقم ضريبي تركي.
- تقديم تقرير التقييم العقاري من جهة مرخصة.
- تحويل المبلغ من بنك أجنبي إلى بنك تركي وفق تعليمات البنك المركزي.
- الحصول على موافقة الوالي عند الحاجة.
سادساً: الخاتمة
يثبت النظام القانوني التركي توازنًا بين تشجيع الاستثمارات الأجنبية والحفاظ على السيادة العقارية للدولة. وبموجب تعديلات 2012، أصبح تملك الأجانب أكثر مرونة، إلا أن الضوابط ما زالت قائمة، خصوصًا في مسائل المساحة، النوع، والموقع.
تؤكد اجتهادات مجلس الدولة على ضرورة احترام المخطط التنظيمي وعدم اتخاذ قرارات إدارية اعتباطية. لذلك فإن الاستعانة بمحامٍ متخصص يعد ضرورة قانونية لحماية حقوق المستثمر الأجنبي وضمان حسن سير المعاملة.